الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فعندما يطيب الثمر فوق الشجر فإن من الحمق ألا ينتفع به.
وتخيل معي شخصا لديه شجرة تفاح تعب في زرعها ورعايتها، فلما حان قطف ثمرها تركه فوق الشجرة حتى مر عليه وقت، فعطب وضمر وسقط من غير انتفاع به!
ولئن كان هذا -في أمر الثمار- حماقة فهو في حال البشر أكبر وربما نعده خيانة.
فالإنسان السوي يحب أبناءه، ويحدب عليهم، ويشفق من أن يصيبهم ما يؤذيهم أو يكدر صفو هنائهم.
ويستوي في ذلك لديه البنين والبنات. وربما وجدت شفقة بعض الآباء على البنات أكثر، وهذا شائع معروف، حيث يستشعر ضعفها، فتتحرك عاطفة الأبوة أو نخوة الأخوة -أيضا- لتثمر هذه العلاقة السامية من العناية بشأنها وحمايتها من كل ما يؤذيها.
فما الذي يدفع بعد ذلك بعض الآباء إلى تجاهل حاجات تلك التي يشفق عليها ويهتم برعايتها في كافة شؤونها، ومن ذلك السعي الحثيث ليزوجها؟
المثل الذي ضربته -في الثمر- أقصد به إهمال الرجل؛ قيم المرأة المسئول عن شأنها والعناية بها، من أن يزوجها إذا بلغت سن الزواج، وأن يسعى لهذا بقدر جهده ليقطف هو ثمرة تربيته لها أجرا وثوابا وسعادة وراحة ضمير.
حيث ساهم بأن تسعد بحياتها الخاصة، وبزوج، وأبناء، وليستفيد المجتمع -بل الأمة كلها- من تلك القوة النفسية الهائلة والحنان التلقائي الطبيعي الذي جُبلت عليه النساء؛ لتنتج له أبناء بررة وتساهم في الاستقرار النفسي للشباب.
أي إهمال! بل أي خيانة للمرأة! أن تترك في البيت ولا يحاول الآباء والإخوة أن يدركوا ما تعانيه من الوحدة بدون زواج؟!
وتمر السنوات تطوي النضارة، وتذوي الشباب، ويذبل بريقه، وتظل الثمار فوق الشجر تنتظر راعيها ليقطفها وينتفع بها، فأي تعطيل لطاقتها الخلاقة في التربية؟! وأي إهمال لحاجاتها النفسية والبدنية بتنحيتها من تلك الحياة التي تجد فيها راحة النفس وسكون الشهوة وطيب العشرة؟!
وتظل المسكينة تعاني من ألم هذا التجاهل والترفع عن إيجاد حل، بدعوى البحث عن الأكفاء، وانتظار أبناء العم الذين ربما تنفر منهم الفتاة، أو يكون بينهما البون شاسعا في الاهتمام والتفكير ومستوى الثقافة.
أعرف امرأة سعت بعض أخواتها لتزويجها بعد بلوغها الأربعين، حتى وفقت لرجل صالح فشكرت لأختها صنيعها، وعلقت بكلمة -أتمنى أن يتأمل فيها كل عاقل من الأولياء- قالت: ألم يكن أولى بأبي وإخواني أن يسعوا لتزويجي من أكثر من عشرين سنة؟!
وكأنها تشير بهذا اللوم إلى حجم المعاناة التي مرت بها في صمت وحياء، من غير أن تفصح عن مكنون حسرتها وعظيم ألمها، فيمنعها الحياء من بث تلك الهموم لغيرها أو توصيلها لأوليائها.
إن للفتاة حاجات كبرى من الزواج، إنها لرقة قلبها وحساسية نفسها تميل لزوجها، بل ليس لغيره من الناس نفس تلك المكانة. هكذا جبلت وتلك طبيعتها.
لذا كان تفهم السلف الصالح لهذه الفطرة وانظر إلى هذا الموقف:
عن ابن جريج قال أخبرني من أصدق أن عمر وهو يطوف سمع امرأة وهي تقول:
تطاول هذا الليل واخضل جانبه وأرقني إذ لا خليل ألاعبه
فلولا حذار الله لا شيء مثله لزعزع من هذا السرير جوانبه
فقال عمر: فما لك؟ قالت: أغربت زوجي منذ أربعة أشهر، وقد اشتقت إليه! فقال: أردت سوءً؟ قالت: معاذ الله، قال: فاملكي على نفسك، فإنما هو البريد إليه. فبعث إليه. ثم دخل على حفصة فقال: إني سائلك عن أمر قد أهمني فأفرجيه عني، كم تشتاق المرأة إلى زوجها؟
فخفضت رأسها فاستحيت، فقال: فإن لله لا يستحيي من الحق! فأشارت: ثلاثة أشهر وإلا فأربعة. فكتب عمر ألا تحبس الجيوش فوق أربعة أشهر. لم يقل لها عمر: "اصبري" ولم يلقي بلائمة عليها -إذ اشتكت- بل قدر حاجتها وسعى في حل مشكلتها. فهلا اقتدينا بذلك؟
لذا كان السلف الصالح يحرصون على تزويج بناتهم، ويعرضونهن على من يرونه كفئا لهن في الدين والتدين. هل رأيت مثل عمر قوة وبأسا وعزة؟! ومع ذلك لم يمنعه هذا من أن يعرض حفصة –إذ تأيمت ومات زوجها- على أبي بكر وعلى عثمان -رضي الله عنهم- ليضمن لابنته هذا الاستقرار في كنف زوج صالح.
وقل مثل ذلك في تزويج علي ابنته أم كلثوم -رضي الله عنهما- لعمر -رضي الله عنه-. فكل هذا التحرز والبحث عن القريب وكفاءة الأسرة لم يكن معتبرا لديهم، وكان السبق في الدين هو أصل ما يبنون عليه العلاقة الزوجية.
صحيح أنه كانت هناك اعتبارات أخرى: من القدرة على النفقة، ومن تفضيل صاحب النسب إن تساوى في الدين مع غيره، ومن القبول الشخصي والرضا المتبادل، لكن بقي الأصل الذي نحتاج جميعا إلى التأمل فيه وهو ما رواه أبو هريرة.
قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) (رواه الترمذي). وها نحن نشهد بأعيننا كم تعاني مجتمعاتنا العربية والإسلامية والخليجية -على وجه أخص- من تلك المشكلة، مشكلة العنوسة التي يتسبب فيها الآباء ورجال الأسرة لبناتهم.
إن نسب تلك النسوة العوانس في مجتمعاتنا قد تصل إلى نصف الفتيات وقد تزيد. ونحن وإن كنا نرى أسبابا عدة لهذه المشكلة، لكن أكبرها هو هذا المنع أو العضل، فالبنات إذن يعانين معاناة شديدة. وحري بالعقلاء وأصحاب القلوب الرحيمة من أهاليهن ألا تأخذهم الأنفة عن البحث عن حل، تماما كمثل ما كانوا سيفعلون لو تعرضت ابنتهم هذه لمرض أو حاجة من الحوائج المادية.
فالعضل هو: التحكم في مصير النساء ومنعهن من الزواج لغير سبب. ولغة يقال: عَضَل الرجل أخته وابنته يَعْضُلُها يَعْضِلُها عَضْلاً إذا منعها من التزويج, وكذلك عضل الرجل امرأته. حيث يظل يطلقها ثم يعيدها قبل انتهاء عدتها ليضر بها ويؤذيها، وكل ذلك حرمه الشرع. وقد استخدم العرب كلمة العضل وصفا لكل متعنت، قال عمر -رضي الله عنه- : "أعْضَلَ بي أهل الكوفة، ما يَرْضَون بأمير، ولا يرضاهم أمير".
لقد نهى القرآن الكريم عن ذلك العضل في قوله تعالى: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف).
وسبب نزولها رواه البخاري من أن الآية نزلت في معقل بن يسار، حيث كان قد زوج أخته لرجل فطلقها زوجها، ثم أراد الرجوع إليها ثانياً فأبى أخوها معقل أن تعود إليه مع كونها راغبة فيه، فنزلت الآية تنهى عن ذلك. وما أروع ما نبهت الآية إليه من اشتياق الطرفين للآخر، وقد نقل عن الشافعي رضي اللّه عنه أنه قال: إن هذه الآية أصرح آية في الدلالة على ضرورة الولي.
بيد أن هذه الولاية ليست على إطلاقها بحيث تمنع البنت من الزواج مطلقا وبدون سبب أو لسبب واه كانتظار ابن عمها الذي لا ترغب فيه، فإذا أصر الأولياء على العضل فإن أقرب الأقوال إلى الواقع أن تبدأ البنت بطلب ذلك من العصبة، وعَصَبةُ الرجل: بنوه وقرابته لأبيه، سُمُوا بذلك لأنهم عَصَبُوا به: أي أحاطوا به.
والأب طرف، والابن والعم جانب، والأخ جانب -كذا في مختار الصحاح-، فإن أبوا فلها أن ترفع أمرها للقضاء فيزوجها الحاكم.
سئل شيخ الإسلام -رحمه الله- عن مسألة مشابهة، فقال ما معناه: إذا خطبها من يصلح لها فعليهم أن يزوجوها فإن امتنعوا من ذلك زوجها الحاكم أو العصبة إن كان له عصبة غير أولاده. لكن من العلماء من يقدم الحاكم إذا عضل الولي الأقرب.
وهو مذهب الشافعي وأحمد في رواية، ومنهم من يقدم العصبة كأبي حنيفة في المشهور عنه، فإذا لم يكن له عصبة زوج الحاكم باتفاق العلماء. ولو امتنع العصبة كلهم زوج الحاكم بالاتفاق. وإذا أذن العصبة للحاكم جاز باتفاق العلماء.
ونعود فنقول أن حياء البنت وإبقاءها على أهلها و إكبارها بهم يمنعها من رفع الأمر إلى القضاء، فلابد لأوليائها أن يحفظوا لها كرامتها تلك، ويبقى الإذن بهذا صالحا للبعض.
وهذا العضل ليس هو سبب العنوسة الوحيد -كما أسلفت- بل أحيانا تقف العوائد والتباهي كعقبة كئود في سبيل تزويج الفتيات.
زيادة المهور ومتطلبات الزواج تخوف الفتيان من الإقدام، وقد تدفع الفتيات أنفسهن إلى تأجيل الزواج حتى يأتي من يدفع أكثر لا من يبني بيتا على المودة والرحمة كما أمر الله تعالى؛ وهذا كله مخالف لما شرعه الله تعالى من تيسير الزواج وإشاعته كمنطلق لعصمة المجتمع ومحافظة على نفسية أفراده واستثمارا لطاقاتهم فيما ينفعهم وينفع أمتهم.
وانظر كيف كان فهم السلف الصالح لقضية تيسير الزواج: سئل سعيد بن المسيب - رحمه الله - عن حديث (خير النساء أيسرهن مهراً) كيف تكون حسناء ورخيصة المهر؟
فقال سعيد: يا هذا، انظر كيف قلت، أهم يساومون في بهيمة لا تعقل؟ أتراها بضاعة طمع صاحبها يغلب على مطامع الناس؟. (اتقوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) (النساء:1).
وجاء في وصية ابن جني لبنيه: "يا بني إن الجمال ونضارة الشباب تزيلها السنون، وإن المال غاد ورائح، ولا يبقى إلا الدين، فاظفر بذات الدين تربت يداك".
وقال تعالى: (وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (النور:32) أي لا تمتنعوا عن التزوج بسبب فقر الرجل والمرأة، إن يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله، وهذا وعد بالغنى للمتزوجين طلب رضاء الله واعتصاما من معاصيه.
وقال ابن مسعود: "التمسوا الغنى في النكاح" وتلا هذه الآية وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ثلاثة كلهم حق على الله عونه المجاهد في سبيل الله والناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء) (أخرجه ابن ماجة في سننه).
فإن قيل فقد نجد الناكح لا يستغني، قلنا لا يلزم أن يكون هذا على الدوام بل لو كان في لحظة واحدة لصدق الوعد، وقد قيل: يغنيه أي يغني النفس، وفي الصحيح (ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس)0
نحن نعاني من مشكلة العنوسة المجتمع كله يعاني من ذلك، فيجب ألا ندفن رؤوسنا في الرمال. وفي دراسة حديثة عن أسباب تأخر سن الزواج في دولة الإمارات –كمثال- نشرت إحدى الصحف المحلية أن نحو 50% من الشباب يرون أن الشروط التعجيزية التي يضعها الأهل تقف حجر عثرة في طريق إتمام زواجهم المبكر، وهي السبب في عزوفهم عن الزواج.
وأوضحت الدراسة التي أعدتها إحدى الجمعيات النسائية بالإمارات أن مطالبة أهل الفتاة بمهر كبير، ومكان متسع، وسيارة حديثة تعطل الشباب عن التقدم للزواج في سن صغيرة حتى يتمكن من جمع مبلغ ضخم يغطي هذه المطالبة. و65% من الشباب يقولون: إن الفتاة تؤجل الموافقة على الزواج انتظارا لتقدم الأفضل.
فحتى متى نترك هذه المشكلة دون توجيه ونصح؟! بل دون تقنين إن كان هذا ممكنا؟!
الكاتب: ياسر عبد التواب
المصدر: موقع صوت السلف